الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فجعل حصول النسيان شرطًا لحصول الذكر ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حصول المعنى في النفس قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] وههنا دقيقة تفسيرية وهي أنه سبحانه وتعالى قال: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 52] فهذا الأمر هل يتوجه على العبد حال حصول النسيان أو بعد زواله فإن كان الأول فهو حال النسيان غافل عن الأمر وكيف يوجه عليه التكليف مع النسيان وإن كان الثاني فهو ذاكر والذكر حاصل وتحصيل الحاصل محال فكيف كلفه به وهو أيضًا متوجه على قوله: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله} [محمد: 19] إلا أن الجواب في قوله: فاعلم أن المأمور به إنما هو معرفة للتوحيد وهذا من باب التصديقات فلا يقوى فيه ذلك الإشكال وأما الذكر فهو من باب التصورات فيقوى فيه ذلك الإشكال وجوابه على الإطلاق أنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر وإذا كان ذلك ممكنًا كان ما ذكرته تشكيكًا في الضروريات فلا يستحق الجواب.بقي أن يقال فكيف يتذكر فنقول لا نعرف كيف يتذكر لكن علمك بتمكنك في علمك بأن في الجملة يكفيك في الاشتغال بالمجاهدة وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك من التذكر ذاك ليس منك بل هاهنا سر آخر وهو أنك لما عجزت عن إدراك ماهية التذكر والذكر مع أنه صفتك فأنى يمكنك الوقوف على كنه المذكور مع أنه أبعد الأشياء مناسبة منك فسبحان من جعل أظهر الأشياء أخفاها ليتوصل العبد به إلى كنه عجزه ونهاية قصوره فحينئذٍ يطالع شيئًا من مبادئ مقادير أسرار كونه ظاهرًا باطنًا.وسابعها: المعرفة وقد اختلفت الأقوال في تفسير هذه اللفظة فمنهم من قال المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات وآخرون قالوا المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم وليس كل عالم عارفًا ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غايتها بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحدًا من البشر لا يعرف الله تعالى لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال.وآخرون قالوا من أدرك شيئًا وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانيًا وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانيًا هو الذي أدركه أولًا فهذا هو المعرفة فيقال: عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا.ثم في الناس من يقول بقدم الأرواح ومنهم من يقول بتقدمها على الأبدان ويقول إنها هي الذر المستخرج من صلب آدم عليه السلام وإنها أقرت بالإلهية واعترفت بالربوبية إلا أنها لظلمة العلاقة البدنية نسيت مولاها فإذا عادت إلى نفسها متخلصة من ظلمة البدن وهاوية الجسم عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة به فلا جرم سمى هذا الإدراك عرفانًا.وثامنها: الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب والإفهام هو اتصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع.وتاسعها: الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه يقال فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب ثم إن كفار قريش لما كانوا أرباب الشبهات والشهوات فما كانوا يقفون على ما في تكاليف الله تعالى من المنافع العظيمة لا جرم قال تعالى: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93] أي لا يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي.وعاشرها: العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في الشيء من النفع داعيًا لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعيًا لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعًا من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة.ولهذا لما سئل بعض الصالحين عن العقل، قال هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ولما سئل عن العاقل قال العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه، فهذا هو القدر اللائق بهذا المكان والاستقصاء فيه يجيء في موضع آخر إن شاء الله تعالى.الحادي عشر: الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيل وهو تقديم المقدمات واستعمال الروية وأصله من دريت الصيد والدرية لما يتعلم عليه الطعن والمدرى يقال لما يصلح به الشعر وهذا لا يصح إطلاقه على الله تعالى لامتناع الفكر والحيل عليه تعالى.الثاني عشر: الحكمة: وهي اسم لكل علم حسن، وعمل صالح وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري وفي العمل أكثر استعمالًا منه في العلم، ومنها يقال أحكم العمل إحكامًا إذا أتقنه وحكم بكذا حكمًا والحكمة من الله تعالى خلق ما فيه منفعة العباد ومصلحتهم في الحال وفي المآل ومن العباد أيضًا كذلك ثم قد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل هي معرفة الأشياء بحقائقها، وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات لا كمال فيه لأنها إدراكات متغيرة.فأما إدراك الماهية، فإنه باقٍ مصون عن التغير والتبدل وقيل هي الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة وقيل هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور وجوده عن البخل وحلمه عن السفه.الثالث عشر: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قالوا إن اليقين لا يحصل إلا إذا اعتقد أن الشيء كذا وأنه يمتنع كون الأمر بخلاف معتقده إذا كان لذلك الاعتقاد موجب هو إما بديهية الفطرة وإما نظر العقل.الرابع عشر: الذهن وهو قوة النفس على اكتساب العلوم التي هي غير حاصلة وتحقيق القول فيه إنه سبحانه وتعالى خلق الروح خاليًا عن تحقيق الأشياء وعن العلم بها كما قال تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] لكنه سبحانه وتعالى إنما خلقها للطاعة على ما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والطاعة مشروطة بالعلم وقال في موضع آخر {الصلاة لِذِكْرِى} [طه: 14] فبين أنه أمر بالطاعة لغرض العلم والعلم لابد منه على كل حال فلابد وأن تكون النفس متمكنة من تحصيل هذه المعارف والعلوم فأعطاه الحق سبحانه من الحواس ما أعان على تحصيل هذا الغرض فقال في السمع: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وقال في البصر: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] وقال في الفكر: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فإذا تطابقت هذه القوى صار الروح الجاهل عالمًا وهو معنى قوله تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرءان} [الرحمن: 1] فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن.الخامس عشر: الفكر وهو انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة قال بعض المحققين إن الفكر يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلوم من عنده.السادس عشر: الحدس ولا شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة فإن النفس حال كونها جاهلة كأنها واقفة في ظلمة ولابد لها من قائد يقودها وسائق يسوقها وذلك هو المتوسط بين الطرفين وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين والمقدمتان هما كالشاهدين فكما أنه لابد في الشرع من شاهدين فكذا لابد في العقل من شاهدين وهما المقدمتان اللتان تنتجان المطلوب فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس.السابع عشر: الذكاء وهو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر وسرعة القطع بالحق وأصله من ذكت النار وذكت الريح وشاة مذكاة أي مدرك ذبحها بحدة السكين.الثامن عشر: الفطنة وهي عبارة عن التنبه لشيء قصد تعريضه ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز.التاسع عشر: الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل الدليل وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر في النفس ولذلك يقال: هذا خطر ببالي إلا أن النفس لما كانت محلًا لذلك المعنى الخاطر جعلت خاطرًا إطلاقًا لاسم الحال على المحل.العشرون: الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لأشخاص جزئية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة المؤذي.الحادي والعشرون: الظن وهو الاعتقاد الراجح ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة فلهذا قيل إنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر ثم إن الظن المتناهي في القوة قد يطلق عليه اسم العلم فلا جرم قد يطلق أيضًا على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} [البقرة: 46] قالوا: إنما أطلق لفظ الظن على العلم هاهنا لوجهين:أحدهما: التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم.والثاني: أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى: {الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} [الحجرات: 15] واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال هذا العلم.وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم كقوله تعالى: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى عَنْ الحق شَيْئًا} [النجم: 28] وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} [الحجرات: 12] الثاني والعشرون: الخيال.وهو عبارة من الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته.ومنه الطيف الوارد من صورة المحبوب خيالًا والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة، والطيف لا يقال إلا فيما كان في حال النوم.الثالث والعشرون: البديهة وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين.الرابع والعشرون: الأوليات وهي البديهيات بعينها والسبب في هذه التسمية أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولًا لا بتوسط شيء آخر فأما الذي يكون بتوسط شيء آخر.فذاك المتوسط هو المحمول أولًا.الخامس والعشرون: الروية، وهي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير، وهي من روى.السادس والعشرون: الكياسة، وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع.ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت.السابع والعشرون: الخبرة، وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة، يقال خبرته قال أبو الدرداء: وجدت الناس أخبر تقله.وقيل هو من قولهم: ناقة خبرة.أي غزيرة اللبن، فكان الخبر هو غزارة المعرفة.ويجوز أن يكون قولهم ناقة خبرة: هي المخبر عنها بغزارتها.الثامن والعشرون: الرأي، وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي، والرأي للفكر كالآلة للصانع، ولهذا قيل: إياك والرأي الفطير، وقيل: دع الرأي تصب.التاسع والعشرون: الفراسة وهي الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن، وقد نبه الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ} [الحجر: 75] وقوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بسيماهم} [البقرة: 273] وقوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القول} [محمد: 30] واشتقاقها من قولهم: فرس السبع الشاة، فكأن الفراسة اختلاس المعارف، وذلك ضربان: ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب، وذلك ضرب من الإلهام بل ضرب من الوحي، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن في أمتي لمحدثين وإن عمر لمنهم» ويسمى ذلك أيضًا النفث في الروع، والضرب الثاني من الفراسة ما يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة وقال أهل المعرفة في قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} [هود: 17] إن البينة هو القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال.
|